فصل الأول: بعض
مسائل وأحكام الذكر المشروع:
المبحث الأول: معنى الذكر وعلاقته بالدعاء:
1-
معنى الذكر لغة:
الذكر لغة: مصدر ذَكر الشيء يذكره ذِكراً وذُكراً،
وأصل الذكر
في اللغة التنبيه على الشيء، ومن ذكَّرك شيئا فقد نبَّهك عليه، وإذا
ذكَّرته
فقد نبَّهته عليه[1].
ويأتي لمعان:
أ- الشيء يجري على اللسان، أي: ما ينطق به، يقال:
ذكرت الشيء
أذكره ذِكرا وذُكرًا إذا نطقت باسمه أو تحدَّثت عنه، ومنه قوله
تعالى:
{ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}
[مريم:2].
ب- استحضار الشيء في القلب، ضد النسيان، قال تعالى
حكاية عن
فتى موسى عليه الصلاة والسلام:
{قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى ٱلصَّخْرَةِ
فَإِنّى
نَسِيتُ ٱلْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَنْ
أَذْكُرَهُ}
[الكهف:63].
قال الراغب الأصفهاني: "الذكر: تارة يقال ويراد به
هيئة للنفس
بها يُمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة، وهو كالحفظ إلا أن
الحفظ
يقال اعتبارا بإحرازه، والذكر يقال اعتبارا باستحضاره، وتارة يقال
لحضور
الشيءِ القلبَ أو القولَ، ولذلك قيل: الذكر ذكران: ذكر بالقلب، وذكر
باللسان.
وكل واحد منهما ضربان: ذكر عن نسيان، ذكر لا عن نسيان بل عن إدامة
الحفظ"[2].
ويطلق الذكر على أمور كثيرة، ومنها ما نقله القاضي
عياض عن
الحربي أنه قال: "للذكر ستة عشر وجها: الطاعة، وذكر اللسان، وذكر
القلب،
والإخبار، والحفظ، والعظمة، والشرف، والخير، والوحي، والقرآن،
والتوراة،
واللوح المحفوظ، واللسان، والتفكر، والصلوات، وصلاة واحدة"، وزاد
القاضي عياض
أيضا فقال: "وقد جاء بمعنى التوبة، وبمعنى الغيب، وبمعنى الخطبة"[3].
2-
معنى الذكر شرعا:
وأما شرعا فله معنيان:
أ- معنى عام: ويشمل كل أنواع العبادات من صلاة وصيام
وحج
وقراءة قرآن وثناء ودعاء وتسبيح وتحميد وتمجيد وغير ذلك من أنواع
الطاعات؛
لأنها إنما تقام لذكر الله وطاعته وعبادته.
قال
شيخ
الإسلام: "كل ما تكلم به اللسان وتصوره القلب مما يقرِّب إلى الله من
تعلّم
علم وتعليمه وأمر بمعروف ونهي عن منكر فهو من ذكر الله"[4].
وقال
عبد الرحمن
بن سعدي: "وإذا أطلق ذكر الله شمل كل ما يقرِّب العبدَ إلى الله من
عقيدة أو
فكر أو عمل قلبي أو عمل بدني أو ثناء على الله أو تعلم علم نافع
وتعليمه ونحو
ذلك، فكله ذكر لله تعالى"[5].
ب-
معنى خاص:
وهو ذكر الله بالألفاظ التي وردت عن الله سبحانه وتعالى من تلاوة
كتابه أو
إجراء أسمائه أو صفاته العليا على لسان العبد أو قلبه مما ورد في
كتاب الله
سبحانه، أو الألفاظ التي وردت على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم،
وفيها
تمجيد وتنزيه وتقديس وتوحيد لله سبحانه وتعالى[6].
قال
ابن علان:
"أصل وضع الذكر هو ما تعبَّدنا الشارعُ بلفظه مما يتعلق بتعظيم الحق
والثناء
عليه"[7].
والمراد
من
الذكر: حضور القلب، فينبغي أن يكون هو مقصود الذاكر فيحرص على تحصيله
ويتدبر
ما يذكر، ويتعقَّل معناه[8].
3-
العلاقة بين الذكر الدعاء:
سبق في تعريف الذكر بمعناه العام أنه يشمل جميع أنواع
العبادات والطاعات ومن ضمنها الدعاء بنوعيه: دعاء المسألة ودعاء
العبادة الذي
هو بمعنى الذكر والثناء، فالدعاء نوع من أنواع الذكر ولون منه.
ولكن وردت نصوص كثيرة تدل على إطلاق الدعاء على الذكر
الأعم
من معنى دعاء المسألة، منها حديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه
وسلم:
((أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد
لله))[9]،
ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه
وسلم يدعو
عند الكرب يقول:
((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب
السموات
والأرض ورب العرش العظيم))[10].
وقد وضح هذا الإشكال كثير من العلماء، منهم سفيان بن
عيينة
عندما سئل عن دعاء يوم عرفة فقال: هو ذكر وليس فيه دعاء، ولكن قال
النبي صلى
الله عليه وسلم عن ربه عز وجل:
((من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضلَ ما أعطي
السائلين))[11].
قال: وقال أمية بن أبي الصلت في مدح عبد الله بن
جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني
حياؤُك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المـرء يوما كفاه من
تعرُّضـك
الثناء
قال
سفيان: فهذا
مخلوق حين نُسب إلى الكرم اكتفى بالثناء عن السؤال فكيف بالخالق؟![12].
وقال
الخطابي:
"إن الداعي يفتح دعاءه بالثناء على الله سبحانه ويقدمه أمام مسألته،
فسمِّي
الثناء دعاء، إذ كان مقدمةً له وذريعة إليه على مذهبهم في تسمية
الشيء باسم
سببه"[13].
وقال
شيخ
الإسلام: "إنَّ كلَّ واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه"[14].
إذاً فالعلاقة بين الذكر والدعاء كما يلي:
أ- إذا أريد بالدعاء دعاء العبادة فهو حينئذ مرادف
للذكر.
ب- وإذا أريد بالدعاء دعاء المسألة فيكون حينئذ أخصَّ
مطلقا
من الذكر، ويكون الذكر أعم مطلقا منه؛ لأن الدعاء لا ينفك عن كونه
ذكرا، وأما
الذكر فيكون سؤالا ويكون غير سؤال.
ج- وتكون العلاقة بينهما التلازم، وذلك أن دعاء
المسألة ذكر
وثناء وتضرّع وافتقار كما أن في الذكر طلب جلب النفع ودفع الضر ورجاء
الثواب
وخوف العقاب.
والحاصل
أن
العلاقة بين الدعاء والذكر إما ترادف واتحاد، وإما عموم وخصوص مطلق،
وإما
تلازم، ولا يتصور انفكاك أحدهما عن الآخر، فلهذا كانت أغلب الكتب
المصنفة في
الأذكار تشمل على الأدعية وبالعكس[15].
ولكن
الغالب
إطلاق الذكر على معناه الخاص وإطلاق الدعاء على دعا المسألة، قال
الشيخ عبد
الرحمن بن حسن: "إن الدعاء أكثر ما يستعمل في الكتاب والسنة واللغة
ولسان
الصحابة ومن بعدهم من العلماء في السؤال والطلب كما قال العلماء من
أهل اللغة
وغيرهم"[16].
المبحث
الثاني: أنواع الذكر والمفاضلة بينها:
1-
أنواع الذكر وأقسامه:
أولا: أنواع الذكر من حيث هو:
الذكر من حيث هو نوعان:
الأول:
ذكر أسماء الله وصفاته، والثناء عليه بهما، وتنزيهه وتقديسه عما لا
يليق به
سبحانه. وهذا أيضا نوعان:
أ- إنشاء الثناء عليه بها من الذاكر، ومثال ذلك
الأذكار
الواردة في الأحاديث نحو:
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله
أكبر، ونحو
ذلك.
وأفضل هذا النوع أجمعه للثناء وأعمه.
ب- الخبر عن الله بأحكام أسمائه وصفاته، نحو قولك:
الله عز
وجل يسمع أصوات عباده، ويرى حركاتهم ونحو ذلك.
وأفضل هذا النوع الثناء عليه بما أثنى به على نفسه،
وبما أثنى
به عليه رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير
تكييف ولا
تمثيل.
وهذا النوع منه ما هو حمد، ومنه ما هو ثناء، ومنه ما
هو
تمجيد.
فحمد الله: الإخبار عنه بصفات كماله سبحانه، مع محبته
والرضا
به.
والثناء على الله: تكرار المحامد شيئا بعد شيء.
وتمجيد الله: مدحه بصفات الجلال والعظمة والكبرياء
والملك.
وقد جمع الله تعالى لعبده الأنواع الثلاثة في أول
الفاتحة،
((فإذا قال العبد:
{ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ}
قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال:
{ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ}
قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال:
{مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ}
قال الله: مجدني عبدي))[17].
الثاني:
ذكر أمره ونهيه وأحكامه.
وهو أيضا نوعان:
أ- ذكره بذلك إخبارا عنه بأنه أمر بكذا، ونهى عن كذا.
ب- ذكره عند أمره فيبادر إليه، وعند نهيه فيهرب منه.
فإذا اجتمعت هذه الأنواع للذاكر فذكرُه أفضل الذكر
وأجلُّه
وأعظمه.
ومن أنواع الذكر أيضا: طلب العلم، وذكر آلاء الله
وإنعامه
وإحسانه[18]،
وذكره تعالى بتلاوة كتابه الكريم، وذكره بدعائه واستغفاره والتضرع
إليه،
والصلاة على نبيه صلى الله عليه.
ثانيا: أنواع الذكر من حيث الإطلاق والتقييد:
الذكر من هذه الحيثية نوعان:
الأول:
الأذكار الواردة المرتبة المقيدة بحال أو زمان أو مكان، فيؤتى بالذكر
على
الوجه الذي ورد في زمانه أو مكانه أو حاله، وفي لفظه، وفي هيئة
الداعي أو
الذاكر به، من غير زيادة أو نقصان، أو تبديل كلمة بأخرى.
الثاني:
الأذكار المطلقة، فيؤتى بالذكر على الوجه الذي ورد في لفظه.
ويجوز الذكر المطلق بغير الوارد بشروط:
أ- أن يتخير من الألفاظ أحسنها وأنبلها وأجمعها
للمعاني
وأبينها.
ب- أن يكون خاليا من أي محذور شرعا أو لفظا أو معنى.
ج- أن
لا يتخذه
سنّة راتبة يواظب عليها[19].
2-
المفاضلة بين أنواع الذكر:
أولا: المفاضلة بين أنواع العبادات ومعرفة مراتب
الأعمال
عموما:
قال
شيخ
الإسلام: "وأما ما سألت عنه من أفضل الأعمال بعد الفرائض، فإنه يختلف
باختلاف
الناس فيما يقدرون عليه وما يناسب أوقاتهم، فلا يمكن فيه جواب جامع
مفصَّل
لكلِّ أحد، لكن مما هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره أن ملازمة
ذكر الله
دائما هو أفضل ما شَغل العبد به نفسَه في الجملة"[20].
وقال ابن القيم في معرض بيان اختلاف الناس في ذلك:
"الصنف
الرابع: قالوا: إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما
هو مقتضى
ذلك الوقت ووظيفته... فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد، وإن آل
إلى ترك
الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومِن ترْك إتمام صلاة الفرض،
كما في
حالة الأمن. والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا القيام بحقه والاشتغال
به عن
الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل. والأفضل في أوقات
السحر
الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار... فالأفضل في
كل وقت
وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك
الوقت
ووظيفته ومقتضاه.
وهؤلاء
هم أهل
التعبد المطلق، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيَّد، فمتى خرج أحدهم
عن النوع
الذي تعلَّق به من العبادة وفارقه يرى نفسَه كأنه قد نقص وترك
عبادتَه، فهو
يعبد الله على وجه واحد؛ وصاحب التعبّد المطلق ليس له غرض في تعبّدٍ
بعينه
يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت، فمدار
تعبّده
عليها، فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة
عمل على
سيره إليها، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى، فهذا دأَبه في السير
حتى
ينتهي سيره. فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العبَّاد رأيته
معهم، وإن
رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت
المتصدقين المحسنين رأيته معهم، وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب
على الله
رأيته معهم. فهذا هو العبد المطلق، الذي لم تملكه الرسوم، ولم
تقيِّده
القيود، ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من
العبادات، بل
هو على مراد ربه، ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه"[21].
وقال أيضا: "فهذا أصل نافع جدا، يفتح للعبد به باب
معرفة
مراتب الأعمال وتنزيلها منازلها، لئلا يشتغل بمفضولها عن فاضلها،
فيربح إبليس
الفضل الذي بينهما، أو ينظر إلى فاضلها فيشتغل به عن مفضولها وإن كان
ذلك
وقته، فتفوته مصلحته بالكلية، لظنه أن اشتغاله بالفاضل أكثر ثوابا
وأعظم
أجرا.
وهذا
يحتاج إلى
معرفة بمراتب الأعمال وتفاوتها ومقاصدها، وفقهٍ في إعطاء كل عمل منها
حقه،
وتنزيله في مرتبته، وتفويته لما هو أهم منه، أو تفويت ما هو أولى منه
وأفضل،
لإمكان تداركه والعود إليه، وهذا المفضول إن فات لا يمكن تداركه،
فالاشتغال
به أولى وهذا كترك القراءة لرد السلام وتشميت العاطس وإن كان القرآن
أفضل،
لأنه يمكنه الاشتغال بهذا المفضول والعود إلى الفاضل، بخلاف ما إذا
اشتغل
بالقراءة فاتته مصلحة رد السلام وتشميت العاطس، وهكذا سائر الأعمال
إذا
تزاحمت، والله تعالى الموفق"[